العلاقات الأميركية الروسية في ظل الأزمة المالية العالمية


نشر في شهر 4-2009

التصميم
الباب الأول: تأثيرالأزمة العالمية على العلاقات في آسيا الوسطى
الفصل الأول: أزمة جورجيا
الفصل الثاني: الدرع الصاروخي الأميركي
الفصل الثالث: قضية توسيع حلف شمال الأطلسي
الباب الثاني: تأثير الأزمة العالمية على العلاقات في الشرق الأوسط وأوروبا وأميركا اللاتينية
الفصل الأول: الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط
الفصل الثاني: تأثير الأزمة العالمية على العلاقات في أوروبا (أمن الطاقة)
الفصل الثالث: تأثير الأزمة العالمية على العلاقات في أميركا اللاتينية
الخاتمة: مستقبل العلاقات الروسية الأميركية في ضوء وصول أوباما للحكم في البيت الأبيض

المقدمة
ربطت روسيا والولايات المتحدة الأميركية علاقات شراكة ومصالح إقتصادية وتجارية متبادلة، ضمن إطار رؤية مشتركة تنطلق من التعاون بين البلدين وليس التنافس أو المواجهة، فلقد أصبح راسخاً لدى القيادة الروسية أنه لم يعد هناك شرق لا غرب، وإنما مجموعة من الدول الكبرى تتقدمهم الولايات المتحدة، وأن روسيا ترتبط بعلاقات ومصالح حقيقية مع الولايات المتحدة، إلا أن هذه العلاقات التعاونية لا تنفي وجود خلافات حول قضايا هامة إنطلاقاً من المصالح العليا لكلا البلدين.
ولأن السياسة الأميركية في الآونة الأخيرة إرتكزت على إستخدام القوة العسكرية المفرطة، فكان لا بد من التشدد في المواقف الروسية تارة، وبالتدخل العسكري تارة أخرى.
وفي الوقت الراهن، فرضت الأزمة العالمية نفسها على الساحة الدولية، مطالبة الدول جميعها بوضع الخلافات جانباً والمضي في تشاور وتحاور حول الآلية المشرفة للخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر.
فكيف أثرت الأزمة الإقتصادية العالمية على العلاقات بين الإتحاد الروسي والولايات المتحدة الأميركية في القضايا التي تعتبر ساخنة بين البلدين؟ ، هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه الورقة البحثية.
إرتأينا تقسيم البحث إلى بابان وكل منهما مقسم بدوره لثلاث فصول،
ففي الباب الأول، سنحاول الإجابة عن تأثير الأزمة على العلاقات البينة في آسيا الوسطى، عبر التطرق لثلاث أمور، هم على التوالي، الأزمة الجورجية في الفصل الأول، الدرع الصاروخي الأميركي في الفصل الثاني وقضية توسيع حلف الناتو في الفصل الثالث.
أما في الباب الثاني، سنحاول دراسة تأثير الأزمة على العلاقات في الشرق الأوسط وفي أوروبا وفي أميركا اللاتينية، في ثلاث فصول يحمل العناوين المذكورة.
وفي الخاتمة سنتطرق لمستقبل هذه العلاقات في ضوء وصول الرئيس الأميركي باراك أوباما السلطة في البيت الأبيض.

الباب الأول: تأثيرالأزمة العالمية على العلاقات في آسيا الوسطى
تعتبر آسيا الوسطى من الوجهة الروسية المجال الحيوي الأول لها، ولطالما سعت موسكو إلى السيطرة على هذه المنطقة  التي تعتبر من الناحية العسكرية الممر الطبيعي لأي هجوم على الإتحاد الروسي.
هذه المنطقة تحوي على ثاني إحتياطي نفطي عالمي خاصة في بحر قزوين، وفي العلاقات بين هاتان الدولتان ضمن هذه المنطقة، برزت ثلاث قضايا أساسية تركت بصمات على العلاقات بين الولايات المتحدة من جهة والإتحاد الروسي من جهة أخرى، سنعالج في الفصل الأول الأزمة الجورجية، أما في الفصل الثاني فسيكون الدرع الصاروخي نقطة بحثنا، أما في الفصل الثالث فسنتطرق لقضية توسيع حلف الناتو.

الفصل الأول: أزمة جورجيا
جورجيا هي أول موطىءٍ للولايات المتحدة في هذه المنطقة، التي شهدت أول ثورة برتقالية في نوفومبر من العام ألفين وثلاثة (2003)، ومنها إنطلقت هذه الثورات المدعومة من واشنطن إلى بلدان أخرى، التي أرادت من خلال دعهما لهذه التحركات تقويض نفوذ الإتحاد الروسي في تلك المنطقة.
فما إن بدأت المصارف الأميركية تعلن إفلاساتها، حتى فاجت روسيا العالم بقصفها الأراضي الجورجية على خلفية هجوم الأخيرة على إقليم أوسيتيا الجنوبية، وهنا كان لهذه الأزمة تأثير إيجابي على العلاقات، إذ أنها ساهمت بتخطي وتجاوز ما كان يحتمل أن يكون جموداً طويلاً في العلاقات بين الدولتين، كان من الممكن أن يتطور لأمور أبعد مما حصل[1]، فلقد إكتفى الرد الأميركي بالتنديد بهذا الهجوم، بدون أي مساعدات ظاهرة لحليفتها الأساسية في آسيا الوسطى، يضاف إليها تجميد حلف شمال الأطلسي لعلاقاته مع روسيا.
بعد الحرب، إنحسر بشكل نسبي الدور الأميركي في تلك المنطقة، وتمثل ذلك بالمبادىء الستة التي تضمنتها خطة السلام التي عكست بشكل أو بآخر الشروط الروسية، ما يعني أن موسكو إستطاعت فرض إرادتها ليس على جورجيا فقط بل على حليفتها الولايات المتحدة الأميركية بشكل أساسي[2]، والتي وقفت مكتوفة الأيدي أمام الدور الروسي في إدارة الأزمة. هذا التراجع الأميركي دفع بموسكو للتقدم أكثر، فبعد الإعتراف بكل من أوسيتيا الجنوبية وأفخازيا، تعهدت بنشر قواعد عسكرية في الإقليمان عبر إتفاقات عسكرية تضعهما بشكل رسمي تحت المظلة العسكرية الروسية[3]، مما أثر حفيظة الولايات المتحدة، التي ردت بلسان رئيسها الجديد باراك أوباما بتأكيد حق حلف شمال الأطلسي بالتوسع في إشارة لإنضمام جورجيا وكرواتيا لهذا الحلف (قبل إجتماع الحلف في الأول من نيسان ألفين وتسعة).

الفصل الثاني: الدرع الصاروخي الأميركي
أعلنت الولايات المتحدة الأميركية في يناير من عام ألفين وسبعة(2007)، نيتها إقامة درع مضادة للصواريخ في جمهوريتا التشيك وبولندا، بهدف مكافحة ما يسمى الإرهاب على حد زعهما. فعبرت روسيا مراراً وتكراراً عن رفضها لهذا المشروع معتبرة إياه مصدر تهديد للأمن الروسي، ما دفع بالرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين بتهديده بأن أوروبا ستكون هدفاً للأسلحة الروسية ولن تتحمل روسيا أية مسؤولية عن ذلك بحال أصرت واشنطن على إقامة هذا المشروع، معتبراً بأنه (أي المشروع) سيزيد من إمكانية نشوب صراع نووي يؤدي لتدمير التوازن الإستراتيجي في العالم[4].
ومع إصرار واشنطن على إقامة المشروع، تزداد الهوة بين الطرفان، فروسيا لا تريد أن يتم تطويقها بقواعد عسكرية أميركية، كما تهدف أيضاً لإستعادة بعض من مواقع النفوذ التي خسرتها بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، بغية منع واشنطن من الإنفراد بالمنطقة، حيث أعلن الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف في خريف عام ألفين وثمانية (2008)، عن إحتمال نشر منظومة إسكندر الصاروخية في منطقة كالينغراد، بيلغ مداها ثلاثة آلاف كيلومتر مربع[5]، ومن شأن هذه المنظومة تشكيل ردع نووي روسي للولايات المتحدة الأميركية، تحذرها من مغبة الإصرار على الدرع الصاروخي.
شهدت العلاقات البينية الأميركية الروسية تطوات ملحوظة على صعيد الدرع الصاروخي، من الأزمة العالمية التي عصفت بدول العالم، إلى إستلام الرئيس باراك أوباما الحكم في البيت الأبيض، وخلال لقاء جمع الأخير بنظيره الروسي في لندن، عشية إنعقاد قمة دول العشرين مطلع شهر نيسان من العام ألفين وتسعة(2009)، أعرب الطرفان عن عزمهما التعاون من أجل خفض التوترات الناجمة عن هذه القضية، وفي بيان مشترك لم ينفي الرئيسان الإختلاف في وجهات النظر، أكدا إمكانية مناقشة موضوع التعاون الدولي المتبادل، في مجال الدفاع المضاد للصواريخ، كما أشار الجانبان إلى البدء في مفاوضات ثنائية تهدف إلى التوصل لمعاهدة جديدة للحد من الأسلحة الإستراتيجية الهجومية لتحل مكان معاهدة ستارت واحد المبرمة منذ العام ألف وتسعمئة وواحد وتسعين(1991)[6].

الفصل الثالث: قضية توسيع حلف شمال الأطلسي
لمواجهة التحديات الأمنية والعسكرية، وضعت منظمة دول شمال الأطلسي مبدأ توسيع الحلف شرقاً، ليطال دولاً كانت تحت المظلة الشيوعية سابقاً، وبالفعل تم قبول عضوية عدد من دول أوروبا الشرقية وأهمها، سلوفينيا ورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا وليثوانيا واستونيا ولاتفيا عام ألفين وأربع(2004)، ومنذ ذلك الحين تنظر روسيا بقلق لمشروع الحلف بضم دولاً أخرى وعلى رأسها جورجيا وأوكرانيا. ومما ساهم في تعزيز المخاوف الروسية تأكيد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش دعمه الكامل لإنضمام البلدين في الأول من نيسان من العام السابق (2008)[7].
هذا التوتر في العلاقات بدأ في التبدد شيئاً فشيىء، خاصة بعد التداعيات التي خلفتها الأزمة العالمية على الولايات المتحدة وعلى العالم، فبعد قطيعة الحلف وروسيا دام لستة أشهر على خلفية النزاع في جورجيا، جاء تصريح الأمين العام للحلف دي هوب شيفر في آذار من العالم ألفين وتسعة(2009) بأن العلاقات مع روسيا مهمة جداً للحلف، وفي مقابلة مع محطة تلفزيونية روسية، إعتبر شيفر أنه على الرغم من الخلافات كافة أن الحلف بحاجة لروسيا، وهذه العلاقات أهم بكثير من أن يتم الإستخفاف بها[8].
إلا أن آثار الأزمة العالمية جعلت الناتو غير قادر على تحمل المزيد من الأعباء المالية الإضافية[9]، فجاءت قمة حلف الناتو الأخيرة التي أجلت البت بإنظمام جورجيا وأوكرانيا، بإنتظار حل لهذه الأزمة.
الباب الثاني: تأثير الأزمة العالمية على العلاقات في الشرق الأوسط وأوروبا وأميركا اللاتينية
تتشعب الملفات العالقة بين البيت الأبيض و الكرملين، والتي تؤثر بشكل أساسي على العلاقات البينية، ومن الملفات العالقة، الصراع على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط في الفصل الأول، موضوع النفط والغاز في أوروبا في الفصل الثاني، عودة روسيا لأميركا اللاتينية في الفصل الثالث.

الفصل الأول: الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط
على الرغم من مشاركة روسيا للولايات المتحدة في رعايتها ما يسمى بعملية السلام في الشرق الأوسط، إلا أن التعاطي الروسي مع دول المنطقة العربية لا يغدو عن كونه إقتصادي بالدرجة الأولى. إلا أن الأمر المهم الذي تنظر إليه واشنطن بأنه تهديد مستقبلي لها، هو المشروع الروسي بإنشاء منظمة لمصدري الغاز الطبيعي يضم إلى جانبها قطر وإيران والجزائر، أوزبكستان وفنزويلا[10]، هذا الأمر إن حصل سيكون له تداعياته ليس على المنطقة فحسب بل على الموازين الدولية بشكل أعم.
ولعبت روسيا دوراً محورياً في إقناع قيرغزستان بإغلاق القاعدة العسكرية الأميركية الموجودة على أراضيها، والتي إستخدمتها واشنطن لتزويد القوات الدولية الموجودة في إفغانستان بالإمدادات العسكرية، هذا الإغلاق إستغلته موسكو بإعلانها السماح لأميركا بإرسال الإمدادات عبر أراضيها، وذلك بهدف دفع واشنطن للتفاهم مع موسكو على قواعد جديدة في إدارة الأزمة في تلك المنطقة، وبالفعل جاء الرد الأميركي موافقاً لتطلعات موسكو، حيث أعلنت إدارة الرئيس الأميريك باراك أوباما إستعداد بلاده لفتح صفحة جديدة في العلاقات والتركيز على أفغانستان[11] لبحث سبل مواجهة حركة طالبان ومنعها من التمدد إلى دول أسيا الوسطى.



الفصل الثاني: تأثير الأزمة العالمية على العلاقات في أوروبا (أمن الطاقة)
روسيا عملاق في مجال الطاقة، تملك سابع إحتياط نفطي عالمي، كما أنها من أكبر دول العالم من حيث إحتياط الغاز الطبيعي. وتعتبر أوروبا السوق الأهم للنفط الروسي، حيث تقوم موسكو بإمداد دول القارة بحوالي ثلث إحتياجاتها من النفط والغاز خاصة ألمانيا، ومن المتوقع أن يغطي الغاز الروسي سبعين بالمئة من إحتياجات أوروبا في العالم ألفين وعشرين(2020)[12].
وفي الثالث والعشرون من العام ألفين و سبعة أبرمت شركة غاز بروم الروسية الحكومية في مجال الغاز الطبيعي إتفاقاً مع إئتلاف الطاقة الإيطالي، تم بموجبه بناء خط لأنابيب الغاز يمتد من روسيا إلى جنوب أوروبا عبر البحر الأسود، بهدف تقويض مشروع نابوكو الموازي الذي تدعمه الولايات المتحدة الأميركية لدعم تنوع مصادر الطاقة للدول الأوروبية.
كذلك شكلت شركة لوك أويل الروسية مؤسسة مشتركة مع شركة كونوكو فيليبس الأميركية، أطلق عليها نفط غاز ناريانمار، بهدف إستثمار حقولاً في شمال الشطر الأوروبي من روسيا، والذي سيتم نقله بناقلات البترول إلى شاطىء بحر بارينتس قرب النرويج للتصدير، وتستأثر لوك أوبل بسبعون بالمئة من أسهم الشركة في حين تبلغ حصة الشركة الأميركية ثلاثون بالمئة. إضافة لمشروعات مماثلة مع دول اليونان وبلغاريا وبلجيكا وغيرها بغية نقل النفط والغاز الروسي لأوروبا الغربية.
أمام هذا النفوذ النفطي المتزايد لروسيا في الأسواق الأوروبية وحتى الأميركية، ولأن النفط ليس سلعة تجارية فحسب، فقد أثار ذلك مخاوف الولايات المتحدة من إستخدام هاتان المادتان كسلاح سياسي من جانب موسكو، وعزز هذه المخاوف الأميركية إغلاق إمدادت الغاز عن أوكرانيا لأكثر من مرة، وعن بيلاروسيا عام ألفين وسبعة(2007)، على الرغم من أن الخلاف كان على أسعار النفط والغاز.
وشدد المخاوف الأميركية الرفض الروسي التصديق على ميثاق الطاقة، الذي إقترحته الدول الأوروبية والداعي لفتح الحقول الروسية للإستثمارات الأجنبية، في حين تطلب موسكو المعاملة بالمثل عبر تبادل فتح الأسواق الأوروبية للنفط والغاز الروسيين، مقابل قتح حقول الغاز للإستثمارات.
في هذا الإطار جاءت دعوة الولايات المتحدة إلى تنويع مصاجر الطاقة لأوروبا، خوفاً من تحول الطاقة الروسية لمصدر لترهيب أو للإبتزاز السياسي، وذلك باللجوء إلى مصادر أخرى للطاقة من آسيا الوسطى والقوقاز، وتعتبر أذربيجان أقوى المنافسين لروسيا في هذا المجال، وذلك من خلال خط أنابيب الغاز (باكو-تبليسي-جيهان)، لنقل الغاز الآذري والتركماني إلى ميناء جيهان التركي ومنه لأوروبا الغربية مروراً بجورجيا، هذا الأنبوب أنشأ بدعم أميركي واضح وبمعارضة روسية قوية.
إضافة لهذا الخط، هناك مشروع نابوكو، وهو تصور مستقبلي لنقل الغاز من أذربيجان وآسيا الوسطى إلى وسط وغرب أوروبا عبر الموانىء التركية. وهناك مشروق لنقل الغاز الإيراني عبر الأراضي التركية والبلغارية والرومانية وصولاً إلى النمسا، هذا المشروع متوقف حالياً بسبب الملف النووي الإيراني.
ومؤخراً وقعت أوكرانيا إتفاقاً مع المفوضية الأوروبية يقضي بتجديد شبكة أنابيب الغاز الأوكرانية، الأمر الذي رفضته موسكو مهددة بإعادة النظر في علاقاتها مع الإتحاد الأوروبي، ولفت رئيس المجموعة الروسية في مجال الغاز "غاز بروم" ألكسي ميلر أن هذه الوثيقة "أي الإتفاق الأوروبي الأوكراني" وضعت من دون مشاركة أبرز الفاعلين في سوق الغاز في أوروبا، معتبراً أن هذا المشروع غير قابل للتطبيق. ووصف ميلر هذا الإعلان بأنه خطأ سياسي، ووقع من وراء ظهر روسيا، مشدداً على أن هذا المشروع هو بمثابة صب الزيت على النار في الوقت الذي أطفئت روسيا نزاعاً غازياً في كانون الثاني الماضي والكلام لميلر[13].

الفصل الثالث: تأثير الأزمة العالمية على العلاقات في أميركا اللاتينية
شكل إعلان الإتحاد الروسي في آذار من العام الحالي(2009) عن إستعداده لإستخدام قواعد عسكرية روسية في كوبا وفنزويلا لتركيز قاذفات إستراتيجية، إستياء كبير لدى واشنطن، التي أعلنت على لسان مسؤول كبير في سلاح الجو الأميركي أن ذلك سيؤدي إلى تجاوز خط أحمر بالنسبة للولايات المتحدة[14]، هذا الخط الأحمر الأميركي ينطلق من مصالحها القومية العليا بحماية مجالها الإقليمي من أي تهديد عسكري محتمل.
وإلى جانب إستأنافها لدوريات بحرية عبر قاذفاتها الإستراتيجية في المنطقة، سعت موسكو إلى تنشيط علاقتها مع كوبا، رغم معارضة الولايات المتحدة لهذا الأمر، مجريةً مع نهاية العام ألفين وثمانية (2008) مناورات بحرية مشتركة في البحر الكاريبي مع فنزويلا، في تحدٍ روسي واضح للسياسة الأميركية في أميركا اللاتينية، كون هذه المنطقة بالذات تعتبر تقليدياً محمية أميركية.

الخاتمة:
جاءت الأزمة المالية العاليمة والتي تحولت بعدها إلى إقتصادية، في وقت إحتدم الصراع بين روسيا والولايات المتحدة، وهذه الأزمة أجبرت كافة الأطراف على التفاهم والتحاور للوصول لبرنامج عمل مشترك يحمي النظام العالمي، وإلا سيواجه العالم فوضى سياسية وإقتصادية كافية للقضاء على منجزات البشرية.
ولأن الولايات المتحدة المعنية الأولى بالأزمة، بدأت ملامح السياسة الخارجية الأميركية الجديدة، في ظل إدارة الرئيس باراك أوباما بالتبلور، منذ خطاب نائبه جورج بايدن أمام منتدى ميونخ للأمن في شباط من العام الحالي، حيث وعد بتبني لغة جديدة عنوانها الإنفتاح على بقية دول العالم عبر التحاور والتشاور فأميركا بحاجة للعالم والعالم بحاجة لأميركا على حد تعبيره.
وفي الشأن الروسي أعلن نية بلاده بإعادة النظر والإنطلاق من جديد في العلاقات الثنائية، مشدداً في الوقت عينه على رفض واشنطن بالإعتراف بأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية[15]، ومشدداً على أن الولايات المتحدة ستدافع بقوة على عن أمنها القومي.
وفي سبيل تحسين العلاقات المتوترة بين البلدين، جاءت زيارة وفد أميركي برئاسة وزير الخارجية السابق هنري كسنجر لموسكو ولقائه الرئيس ديمتري ميدفيديف، حيث تم وضع الخطوط العريضة لتحسين العلاقات، وأعرب الرئيس الروسي عن أمله في الإنطلاق من الصفر في علاقات روسيا مع الولايات المتحدة[16]، ومن جهته إعتبر كسنجر أن الخلافات ليست بالغة الأهمية وأن نقاط الإتفاق كبيرة، كما رحب الكرملين بالمبادرات الأميركية مشيراً بأن الأمر متروك لواشنطن لتقديم تنازلات وليست موسكو إذا ما كان للعلاقات بينهما أن تتحسن[17].
إلا أن التطور الملحوظ في العلاقات هو في نتائج اللقاء الذي جمع الرئيس الروسي مع نظيره الأميركي عشية مؤتمر قمة العشرين في لندن في الأول من نيسان الحالي، حيث جاءت تتويجاً للجهود المشتركة في تحسين العلاقات، حيث إتفق الطرفان على فتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية بإعلانهما في بيان مشترك بدء مفاوضات حكومية ثنائية ليصاغة معاهدة كاملة تفرض بشكل شرعي الخفض والحد من إنتشار الأسلحة الإستراتيجية الهجومية لتحل محل معاهدة ستارت، وتابع البيان أن الدولتان تتطلعان إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية، كذلك أكد الطرفان عزمهما التعاون من أجل خفض التوترات الناجمة عن نشر الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا الشرقية، كما ناقشا الإمكانيات الجديدة لتعاون دولي متبادل في مجال الدفاع المضاد للصواريخ[18]، وأشار الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى وجود مصالح مشتركة بين البلدين ولا سيما في مكافحة ما يسمى الإرهاب وحل الأزمة الإقتصادية. وتشجيعاً للحوار مع واشنطن، أعلن الرئيس الروسي أنه بصدد إيقاف الخطة بنشر صواريخ إسكندر في كاليننغراد تقديراً للموقف الجديد للرئيس أوباما[19].
في الآونة الأخيرة كثر الحديث عن حرب باردة جديدة إندلعت بين موسكو وواشنطن، وهذا ما لا يتفق مع عديد من المعطيات، فإستناداً للتجربة السابقة، لا يوجد اليوم معسكرين عالميين، وأن ما يحصل بين روسيا والبيت الأبيض هو مجرد تنافس على المصالح، تسعى كل دولة لتحسين موقعها الدولي تحسيناً لشروط المفاوضة، إلا أن المؤرخ الإسرائيلي شلومو بن عامي برى أن روسيا تسعى لشراكة إستراتيجية مع الولايات المتحدة، والتي بدورها عليها أن تفهم أنه عندما يتم إقصاء روسيا قد تصبح المفسد العالمي[20].
وبناء عليه، إن مستقبل العلاقات الروسية الأميركية مرتبطة بالتوصل إلى حل القضايا العالقة بينهما، بشكل يرضي المصالح العليا لكلا الدولتان، وهذا الحل مرتبط أيضاً بعوامل داخلية لدى كلا البلدين، هذه العوامل مرتبطة بشكل أو بآخر بتداعيات الأزمة العالمية، وهذا ما يجعلها مفتوحة على كل الإحتمالات، ومما يبدو أن روسيا تبدي إستعداداً لمزيد من الإنفتاح والتعاون مع واشنطن، تلبية لدعوة رئيسها، فكلما إزدادت تداعيات الأزمة كلما إرتفعت دعوات التعاون لتصل إلى مرحلة التطبيق، والأيام القليلة القادمة ستكشف لنا بشكل أوضح مستقبل هذه العلاقات.