المقدمة
سعت الدول الأوروبية ومعها الولايات المتحدة الأميريكة إلى بناء نظام عالمي جديد، وذلك بعد أن لمست دنو إنتصارها في الحرب العالمية الثانية. ولهذه الغاية، عقدت دول الحلفاء عدد من المؤتمرات أهمها مؤتمري يالطة وطهران في العام ألف وتسعمئة وأربع وأربعين (1944) ليؤسس منظمة الأمم المتحدة، وكان مؤتمر بريتون وودز في نفس العام ليضع إتفاقية إنشاء صندوق النقد الدولي، الذي ما إن حطت الحرب أوزارها، حتى بدأ مهامه في السابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر ألف وتسعمئة وخمسة وأربعين (1945).
لقد أوكل المجتمعون في برتون وودز إلى صندوق النقد الدولي مهمة الحفاظ على إستقرار النظام النقدي العالمي، ما جعل من الصندوق مؤسسة عالمية تسعى إلى إصلاح الأنظمة المالية للبلدان في العالم، ومن هنا كانت أهمية دراسة صندوق النقد الدولي بكافة جوانبه، للوقوف على الدور الذي يقوم به لا سيما في الأزمات التي عصفت ببعض الدول.
هدفنا في هذا البحث تسليط الضوء على الأدوار المشبوهة التي قام بها الصندوق، والتي عبرت عن رغبة الدول الكبرى المسيطرة عليه، لا سيما دور الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها في العالم.
طرحنا في هذه الدراسة الإشكالية التالية، هل أن الدور الذي لعبه صندوق النقد الدولي حقق هدفه بالحفاظ على النظام المالي الدولي، أم أنه قام بأدواره حفاظاً على مصالح الدول الكبرى من أجل بسط نفوذها على العالم لاسيما على الدول النامية؟.
وسنعتمد في هذا البحث على عدد من المناهج، المنهج التاريخي في بعض المفاصل، والمنهج التحليلي لشرح وتحليل الأمور المبهمة، يضاف اليهما المنهج الإحصائي.
وللوصول إلى غايتنا، قسمنا البحث إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول، ويدور البحث فيه عن نشأة الصندوق وأهدافه بموجب إتفاقية بريتون وودز، وهذه الفصل مقسم إلى مبحثين، الأول الذي يحمل عنوان نشأة الصندوق، يتضمن تعريف للصندوق في المطلب الأول، والظروف المحيطة في نشأته في المطلب الثاني، وفي المطلب الثالث، سنتكلم عن تأسيس الصندوق في مؤتمر بريتون وودز. أما المبحث الثاني، ويحمل عنوان مقاصد صندوق النقد الدولي، وسيدور البحث حول أهداف الصندوق، والهيكل التنظيمي له، وصنع القرار بداخله، مقسمين بالتوالي على ثلاث مطالب.
الفصل الثاني، ويتم فيه الحديث عن دور صندوق النقد الدولي، على المستوى العالمي، وسنرى ضمن المبحث الأول كيف يقوم صندوق النقد بخدمة أعضائه، وسنقسم هذا المبحث أيضاً إلى ثلاثة مطالب، وهي على التوالي، تقديم المشورة بشأن السياسات والإشراف العملي، الإقراض لمساعدة الدول المتعثرة إقتصادياً، وأخيراً المساعدة الفنية والتدريب. وفي المبحث الثاني، سنرى كيف تعامل صندوق النقد الدولي مع ثلاث أزمات، أولاً، دور الصندوق في الأزمة المالية للنمور الآسيوية، ثانياً، دور الصندوق في الأزمة الإقتصادية العالمية الحالية، ثالثاً، دوره في الأزمة المالية في لبنان.
الفصل الثالث، ويتناول المشاكل التي يعاني منها صندوق النقد الدولي والحلول المقترحة لإصلاحه، وقسمنا هذا الفصل أيضاً إلى مبحثين، الأول الذي قسمناه إلى ثلاث مطالب، هو عبارة عن المشاكل التي يعاني منها الصندوق، سيطرة الدول الكبرى على إتخاذ القرار فيه، النقص في الشفافية، ومشكلة الميزانية. والمبحث الثاني، هو عبارة عن إستعراضٍ للحلول المقترحة لإصلاح الصندوق، وذلك في ثلاث مطالب، المطلب الأول، فيه حديث عن مقترحات الصندوق نفسه، والمطلب الثاني فيه حديث عن المقترحات الروسية والصينية، أما في المطلب الثالث، فسيدور الكلام حول مقترحات المنظمات غير الحكومية لإصلاح صندوق النقد الدولي.
الفصل الأول: نشأة الصندوق وأهدافه
يعتبر إنشاء صندوق النقد الدولي حدثاً بارزاً في تاريخ الإقتصاد العالمي، نظراً لما يجسده من مظهر للتعاون المالي بين الدول المختلفة، فكيف نشأ هذا الصندوق؟، وما هي أهدفه؟.
المبحث الأول: نشأة صندوق النقد الدولي
في تموز من العام ألف وتسعمئة وأربع وأربعون (1944)، إنعقد المؤتمر المالي والنقدي العالمي في مدينة بريتون وودز في الولايات المتحدة الأميركية، وتقرر إنشاء صندوق للنقد العالمي.
فما هو هذا الصندوق؟، وما هي الظروف التي ساهمت بتأسيسه؟.
المطلب الأول: تعريف صندوق النقد الدولي
صندوق النقد الدولي هو عبارة عن مؤسسة تمثل الحكومات العالمية، أنشىء بموجب معاهدة دولية للإشراف على عمل النظام النقدي الدولي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية[1]. وهو وكالة دولية متخصصة من وكالات منظومة الأمم المتحدة، أصبح له وجود فعلي في العام ألف وتسعمئة وخمسة وأربعين (1945)، يعمل على تعزيز سلامة الإقتصاد العالمي، ويقع مقر الصندوق في عاصمة الولايات المتحدة الأميركية واشنطن، ويبلغ عدد أعضاءه مئة وخمسة وثمانون عضواً (185)[2] يضاف إليهم جمهورية كوسوفو[3]. وكما يتضح من إسمه فهذه الوكالة هي صندوق، يمكن أن تستفيد الدول الأعضاء فيه من موارده، لمعالجة ما يتعرضون له من مشكلات في ميزان المدفوعات الوطني.
ويوجد فرق بين صندوق النقد والبنك الدوليين، ففي حين يعمل الأول على تشجيع التعاون النقدي الدولي، ويمنح قروضاً مؤقتة تُعين البلدان الأعضاء على تحقيق الإستقرار المالي والنقدي، يعمل البنك الدولي على تعزيز التنمية الإقتصادية، عن طريق توفير الدعم المالي والفني، ويقدم المساعدة للبلدان الأعضاء في إصلاح قطاعات إنتاجبة معينة أو تنفيذ مشاريع إقتصادية، والمساعدة التي يقدمها البنك هي طويلة الأجل بشكل عام.
المطلب الثاني: الظروف المحيطة بنشأة الصندوق
لم يكن صندوق النقد الدولي وليد اللحظة، فقد ساهمت عدة عوامل في الإسراع في تأسيسه، بدءاً بالأزمة الإقتصادية العالمية في العام ألف وتسعمئة وتسعة وعشرين (1929)، مروراً بالحرب العالمية الثانية وصولاً إلى إنهيار قاعدة الذهب.
لقد أدى الكساد الكبير في الأزمة الإقتصادية العالمية عام ألف وتسعمئة وتسعة وعشرين (1929) إلى إنخفاض الإنتاج والأسعار على المستوى العالمي، وعزز هذا الكساد الإعتقاد بضرورة إضطلاع القطاع العام بدور نشط في الحياة الإقتصادية للدول، كما بدأ المحللون بالتفكير لإيجاد هيئة حكومية دولية تتمتع بصلاحيات كبيرة للحفاظ على النظام المالي الدولي.
وبمجرد إنتهاء الحرب العاليمة الثانية، بدأت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا بإعداد الخطط لإعادة إعمار النظام المالي الدولي، الذي دمرته الحرب، وبالفعل لقد إقترح الإقتصادي الأميركي هاري ديستر هوايت إنشاء صندوق يهدف إلى تثبيت أسعار صرف العملات، عن طريق تحديد تعادل بين عملات الدول بعد ربطها بوحدة النقد الدولية المقترحة "اليونيتاس" أو بالدولار الأميركي.
بمقابل مشروع هوايت طرحت بريطانيا عن طريق الإقتصادي جون ماينارد كينز، مشروعا سمي بإسمه، هو عبارة عن إنشاء إتحاد مقاصة دولي*، تشترك فيه جميع الدول بحصص في رأس المال، على أن يكون معيار تحديد الحصة هو حجو التجارة الخارجية لكل دولة، خلال الثلاث سنوات السابقة للحرب. كما إقترح كينز عملة دولية أسماها "بانكور" تحدد بموجب قيودات حسابية في سجلات الإتحاد وبشكل إئتماني. هاذان المشروعان تقدمت بهما دولهما في مؤتمر بريتون وودز. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة رفضت المشروع البريطاني، إنطلاقاً من تطلعها إلى إقامة سلطة نقدية عالمية فوق كل السلطات، ونظراً لأن هذا الإقتراح يهمش الدور المرتقب للدولار الأميركي[4].
أما فيما خص قاعدة الذهب فقد فشلت تحقيق هدفها بالحفاظ على ثبات أسعار صرف العملات، فشهد العام الف وتسعمئة وستة وثلاثين (1936) إنتهاء التعامل بهذه القاعدة، وإزاء هذا الوضع تدهورت موازين المدفوعات في العديد من دول العالم، مما دفعها إلى إقامة حواجز جمركية وفرض القيود على الواردات مما أدى إلى إنكماش في حجم التجارة الدولية.
أمام تفاقم الأمور عالمياً، ظهرت في الأفق عدة آراء تنادي بضرورة إيجاد تعاون نقدي دولي، فكان بنك التسوية الدولية عام ألف وتسعمئة وثلاثين (1930)، الذي قام إثر إتفاق بين مجمودة دول أوروبية واليابان، وحددت وظائف البنك بالإشراف على تعويضات الحرب العالمية الأولى، وتسهيل حركة التبادل التجاري ودعم التعاون بين البنوك المركزية بما يكفل ثبات وإستقرار النظم النقدية، وغيرها من الإتفاقات الثنائية التي تصب في ذات السياق.
المطلب الثالث: مؤتمر بريتون وودز
إجتمعت وفود أربع وأربعون (44) دولة في بريتون وودز في ولاية نيوهامشبير في الولايات المتحدة الأميركية في تموز/يوليو من العام ألف وتسعمئة وأربع وأربعين (1944)، وكان هدفهم الأبرز إنشاء مؤسسة تحكم العلاقات الإقتصادية الدولية، فكان تركيزهم منصب على تجنب الإخفاقات التي مني بها مؤتمر السلام في نهاية الحرب العالمية الأولى، فرأوا أن إقامة صندوق دولي من شانه المساعدة في إستعادة قابلية تحويل العملات والنشاط التجاري متعدد الأطراف، فنشأ عن هذا المؤتمر إتفاقية تتضمن إنشاء صندوق النقد الدولي.
جدول رقم (1): الدول المؤسسة لصندوق النقد الدولي.
1 أستراليا | 10 الدنمارك | 19 هايتي | 28 زيلندا الجديدة | 37 بريطانيا |
2 بلجياكا | 11 الدومينيك | 20 هندوراس | 29 نيكاراغوا | 38 سلفادور |
3 بوليفيا | 12 إكوادور | 21 هند | 30 النرويج | 39 تشيكوسلوفاكيا |
4 كندا | 13 مصر | 22 العراق | 31 بنما | 40 أفريقيا الجنوبية |
5 تشيلي | 14 الولايات المتحدة | 23 إيران | 32 براغواي | 41 الإتحاد السوفياتي |
6 الصين | 15 أثيوبيا | 24 إيسندا | 33 هولندا | 42 أوروغواي |
7 كولومبيا | 16 فرنسا | 25 ليبيريا | 34 بيرو | 43 فنزويلا |
8 كوستاريكا | 17 اليونان | 26 لوكسومبرغ | 35 فيليبين | 44 يوغوسلافيا |
9 كوبا | 18 غواتيمالا | 27 المكسيك | 36 بولونيا | |
وتقرر فتح باب العضوية أمام جميع الدول التي شاركت بهذا المؤتمر، أما الدول الأخرى فيمكنها الإنضمام إليه، وهو شرط لعضوية البنك الدولي للتعمير والتنمية والذي أنشأ أيضاً في هذا المؤتمر، وعلى الرغم من أن وفد الإتحاد السوفياتي وقع على الإتفاقية في المؤتمر. إلا أن الكرملين رفض أن يكون عضواً في الصندوق، لذلك يمكن القول بأن ما يعرف بنظام بريتون وودز، هو في حقيقة الأمر تجمع الإقتصاد الرأسمالي العالمي[5].
المبحث الثاني: مقاصد صندوق النقد الدولي
سنتكلم في هذا المبحث عن أهداف صندوق النقد الدولي، وسنقف برهة للتعرف على الهيكل التنظيمي له بغية فهم إسلوب عمله أكثر، وأخيراً في هذا المبحث سندرس آلية إتخاذ القرار داخل الصندوق.
المطلب الأول: أهداف صندوق النقد الدولي[6]
يسعى صندوق النقد الدولي إلى المحافطة على سلامة النظام النقدي العالمي، بشكل يمنع الوقوع في فوضى نقدية كتلك التي ضربت العالم بعد الحرب العالمية الأولى، وفي هذا السياق حددت المادة الأولى من الإتفاقية المنشئة للصندوق اهدافه بما يلي:
1- تشجيع التعاون الدولي في هذه المؤسسة الدائمة، والتي تهيئ الوسائل اللازمة للتشاور في المسائل النقدية الدولية.
2- تيسير التوسع والنمو المتوازن في التجارة الدولية، وبالتالي الإسهام في تحقيق مستويات مرتفعة من العمالة والدخل الحقيقي والمحافظة عليها، وفي تنمية الموارد الإنتاجية لجميع الأعضاء وإعتبار كل هذا بمثابة أهداف رئيسية للسياسة الاقتصادية.
3- العمل على تحقيق الاستقرار في أسعار الصرف والمحافظة على ترتيبات صرف منتظمة بين البلدان الأعضاء، وتجنب التنافس لتخفيض قيم المعاملات و يتم ذلك عن طريق:
أ- تثبيت سعر الدولار بالذهب وإمكانية تحويله ذهب من جهة، وتحديد أسعار لصرف العملات للأعضاء على أساس الذهب والدولار من جهة أخرى.
ب- متابعة سياسات تغيير أسعار صرف العملات للدول الأعضاء التي تعاني عجزاً في ميزان مدفوعاتها.
4- المساعدة على إقامة نظام مدفوعات متعدد الأطراف فيما يتعلق بالمعاملات الجارية بين البلدان الأعضاء، وإلغاء القيود المفروضة على عمليات الصرف والمعرقلة لنمو التجارة العالمية.
5- تدعيم الثقة لدى البلدان الأعضاء متيحا لها إستخدم موارده العامة مؤقتا بضمانات كافية، كي تتمكن من تصحيح الاختلالات في موازين مدفوعاتها دون اللجوء إلى إجراءات مضرة بالرخاء الوطني أو الدولي.
ولتحقيق الأهداف السابقة فإن على الدول الأعضاء الالتزام بما يلي:
أ- تبادل المعلومات بينها بحيث تلزم كل دولة عضو بتقديم معلومات دقيقة ووافية عن حالة ميزان مدفوعاتها للصندوق، وتقدم عرضاً عن حال إحتياطاتها وإستثماراته وكذا مستوى الدخل الوطني وتقديم معلومات حسب مستوى الأسعار والنفقات، وبالمقابل يضع كل هذه المعلومات تحت تصرف الدول الأعضاء، كما يلزم بتقديم مساعدته الاستشارية فيما تعلق بالأنظمة النقدية.
ب- إزالة العقبات التي تحول دون التشجيع الحسن للتجارة الدولية، برفع الحواجز الجمركية وسن القوانين الداخلية، وتسيهل عملية نقل السلع والخدمات.
ت- عدم إستخدام الدول الأعضاء لموارد الصندوق لهدف تصحيح الاختلالات في موازين مدفوعاتها، بشكل قد يؤثر سلباً على باقي الدول الأعضاء.
ث- تحقيق حرية تحويل العملات بتجنب الرقابة على أسعار اصرف داخل الدول الأعضاء.
هذه الأهداف التي وضعها مؤسسو الصندوق، في حين كانت صور الحرب العالمية الثانية ماثلة أمام الجميع، وكان في أذهانهم تجربة الكساد الكبير، والآن بعد مرورخمسة وستون عاماً على الإتفاقية، يحب العمل على تطويرها بما يتلاءم مع المتغيرات الدولية المتجددة، وكما هو معروف، إن الإهداف الإستراتيجية لمؤسسة ما لا تبقى ثانبة كما هي الحل مع صندوق النقد الدولي، ولنسلم جدلاً أن هذه الأهداف لا تتبدل، معناها أنها لم تتحقق وبالتالي فشل ذريع لمؤسسة دولية نقدية أهدافها ثابتة منذ أكثر من ستون سنة، لذلك أرى أن هذه الأهداف كما هي لم تعد صالحة اليوم فيجب العمل على تطويرها لا إلغائها نهائياً.
المطلب الثاني: الهيكل التنظيمي لصندوق النقد الدولي
يتكون صندوق النقد الدولي من خمسة اجهزة رئيسية، هي: مجلس المحافظين، المجلس التنفيذي، المدير العام للصندوق، الإدارات الوظيفية وإدارات الخدمات الخاصة، وإدارات المناطق الجغرافية. هذا إلى جانب العديد من الأجهزة الأخرى مفصلة في الجدول التالي:
جدول رقم (2): الهيكل التنظيمي لصندوق النقد الدولي
يعتبر مجلس المحافظين أسمى جهاز في صندوق النقد الدولي، ويتألف من عدد من المحافظين ولكل واحد منهم مناوبين، ويتولى تعيينهم كل بلد عضو بالطريقة التي يراها، وعادة ما يكون المحافظ وزير المالية أو رئيس البنك المركزي للدولة العضو، ويجتمع المجلس عادة مرة في السنة، وفي حالات الضرورة يمكن إنعقاده في أي وقت بناء لطلب المجلس ذاته أو المجلس التنفيذي[7]. ويعاون مجلس المحافظين لجنتان هما اللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية، ولجنة التنمية المشتركة ما بين الصندوق والبنك الدوليين. ويقوم مجلس المحافظين بعدد من المهام الأساسية، فهو يوافق على قبول الأعضاء الجدد وكذلك على إنسحاب أحدهم، ويضع القواعد والتعليمات التي يراها ضرورية لإدارة شؤون الصندوق، كما يقرر تصفية إدارة حقوق السحب الخاصة، وإقرار تصفية الصندوق. وعن المركز القانوني للمحافظين، فهم مستقلون عن الصندوق، ولا يعتبرون تابعين له كموظفين، فهم يستمدون تعليماتهم من حكومات الدول التي عينتهم وكذلك بالنسبة إلى نوابهم[8].
أما المجلس التنفيذي، فهو يتألف من المديرين التنفيذيين، حيث يكون المدير العام رئيساً لمجلس، ومن هؤلاء المديرين خمسة تعينهم الدول الأعضاء التي تملك أكبر الحصص، والآخرون تنتخبهم الدول الباقية، ويجوز لمجلس المحافظين زيادة عدد المدراء أو تخفيضه. ويقوم المجلس التنفيذي بإختيار المدير العام للصندوق، ينشأ اللجان التي يراها ضرورية لمتطلبات العمل، وهو يعتبر بحالة إتعقاد دائم في مقر الصندوق، يضاف إليها كافة الأعمال التي يُفوض بها من قبل مجلس المحافظين.
المدير العام للصندوق وهو رئيس المجلس التنفيذي[9]، يتم إختياره من قبل المجلس، من غير أعضاءه أو أعضاء مجلس المحافظين لمدة خمس سنوات يجوز تمديدها خمس أخرى. ويقوم المدير العام بالإشراف على الموظفين كونه رئيس المجلس والمدير العام، وتقع على عاتقه مهمة التفاوض مع الدول الأعضاء حول الإستفادة من موارد الصندوق، كما يعمل على إجراء المشاورات اللازمة وتقديم الإقتراحات بشأن تخصيص وإلغاء حقوق السحب الخاصة. ويقوم المجلس التنفيذي بالرقابة والإشراف على المدير العام للتأكد من أن ما يقوم به مطابق للأنظمة وللإتفاقية، إلا أن حقيقة الأمر هو أن هذه الرقابة تجسد رغبة الدول في بالسيطرة على أعمال الصندوق عن طريق المدريين التنفيذيين المنتخبين أو المعينين من قبل دولهم.
إلى جانب المدير العام ومجلسي المحافظين والتنفيذي، تقوم لجان الإدارات الوظيفية بتسير الأعمال، هذه الإدارات تنقسم إلى قسمين منها ما هو دائم ومنها ما هو مؤقت ينتهي بمجرد إنتهاءه من المهمة الموكولة إليه. وقد أنشأ الصندوق إدارات تنفيذية تطلع بجانب من المهام الأساسية، ومن هذه الإدارات: مكتب السكريتاريا، مكتب المراقبة المالية، مكتب الشؤون الإدارية والعلاقات العامة، وغيرها من الإدارات التي أنشأها الصندوق لتكون مساعداً له في أعماله.
المطلب الثالث: صُنْع القرار داخل صندوق النقد الدولي
صندوق النقد الدولي كما معظم المنظمات الدولي، يلجأ لإتخذ القرارات عن طريق التصويت. ففي صندوق النقد الدولي يستند نظام التصويت على حص الأعضاء، كما يأخذ الصندوق بمبدأ الأغلبية، ويعمد في بعض القرارات إلى العمل بمبدأ الإجماع.
في المادة الثانية عشر من الإتفاقية، القسم الخامس فقرة ألف، حددت حصة كل عضو في الصندوق مئتان وخمسين صوتاً، يضاف إليها صوتاً واحداً عن كل جزء من حصته، يعادل مئة ألف صوت من حقوق السحب الخاصة. أما في المادة الخامسة، القسم الرابع والخامس الفقرة باء، قررت أنه عند إجراء التصويت يكون لكل عضو عدد الأصوات المنصوص عليها في الفقرة ألف مع تعديله على النحو التالي:
- يضاف صوت واحد عن كل ما يعادل أربعمئة ألف من حقوق السحب الخاصة من صافي مبيعات عملته من موارد الصندوق العامة حتى تاريخ إجراء عملية التصويت.
- يخصم صوت واحد عن كل ما يعادل أربعمئة ألف من حقوق السحب الخاصة من صافي مشترياته بشرط أن لا يزيدها في المشتريات أوفي المبيعات في أي وقت عن مبلغ مساوٍ لحصة العضو صاحب الشأن.
وبناء عليه، لقد بلغت حصة الدول الصناعية وحدها ما يعادل الستين بالمئة من مجموع الحصص، في الوقت الذي لا تزال فيه حصة الدول النامية أربعون بالمئة، وبذلك يصبح للدول الصناعية حق القيتو على أي قرار لا يصدر بناء على مصالحها ورغباتها[10].
في بادىء الأمر كانت نسبة الأغلبية هي ثمانون بالمئة من مجموع الأصوات، وعند التعديل الأول للإتفاقية في العام ألف وتسعمئة وثمانية وستين رفعت النسبة إلى خمسة وثمانين بالمئة، وفي التعديل الثاني في العام ألف و تسعمئة وستة وسبعين جعلت نسبة التصويت محصورة في نسبتين،( سبعين بالمئة، خمسة وثمانين بالمئة) من مجموع الأصوات، هذا التعديل جعل القرارات ذات الأهمية في تحديد سياسات الصندوق لها نسبة عالية، ما جعل تلك القرارات مرهونة بموافقة الدول الكبرى عليه وتتعطل القرارات بإعتراض الولايات المتحدة التي تملك سبعة عشر فاصل ستة بالمئة من مجموع التصويت(17.6%)[11] .
ويوضح الجدول التالي مقدار القوة التصويتية لعدد من الأعضاء،
جدول رقم (3): مقدار القوة التصويتية لبعض الدول
الولايات المتحدة | % | 17.16 | المملكة السعودية | % | 3.24 |
ألمانيا | % | 6.02 | كندا | % | 2.95 |
بريطانيا | % | 4.97 | الصين | % | 2.95 |
فرنسا | % | 4.97 | مصر | % | 0.45 |
المرجع: عادل المهدي، عولمة النظام العالمي ومنظمة التجارة العالمية، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الثانية،2004، ص109.
والحقيقة ان الولايات المتحدة الأميركية تملك المقدرة على النفوذ في هذا الصندوق، ونظراً لهذه الميزة، فإن واشنطن تعمد إلى دعم الدول التي تلتزم بالتحالفات معها، وتسعى لتقوية نفوذ أنظمة حليفة لها، أو نفوذ حاكم صديق، وبالمقابل تسعى لإضعاف نظام معادٍ لها عن طريق إزالة كل أشكال الدعم له[12].
الفصل الثاني: دور صندوق النقد الدولي
يثير دور صندوق النقد الدولي علامات إستفهام عديدة، مصدرها سيطرة الدول الكبرى على القرارات فيه، لا سيما الولايات المتحدة، فكيف يحقق صندوق النقد أهدافه؟، وكيف مارس سلطته على الدول الأعضاء.
المبحث الاول: دور صندوق النقد الدولي في خدمة أعضاءه
يسعى صندوق النقد الدولي لتحقيق هدفه الرئيس بالحفاظ على النظام النقدي العالمي، عبر عدد من الخطوات، فيقدم المشورة بشأن السياسات ويشرف عليهان كما يقوم بإقراض الدول المتعثرة إقتصادياً، ويسمح أيضاً للدول الأعضاء بالإستفادة من خبراته الفنية ويدربها أيضاً.
المطلب الأول: تقديم المشورة بشأن السياسات والإشراف العملي
يقوم صندوق النقد الدولي بالإشراف على النظام النقدي الدولي، بما في ذلك الرقابة على سياسات أسعار الصرف لدوله الأعضاء، وطبقاً للإتفاقية، فإن كل بلد ملزم بالتعاون مع الصندوق من خلال تقديم المعلومات اللازمةله، ويتم الإشراف في إطار تحليل شامل للحالة الإقتصادية العامة للبلد المستهدف.
ومن شان هذا الدور المشرف على إقتصاديات الدول، يساعد صندوق النقد في التنبه للأخطار قبل وقوعها، وذلك لتمكين كل طرف من التصرف في الوقت المناسب لتجنب الأزمات الكبرى*.
ويتخذ الصندوق ثلاث أشكال من الرقابة على إقتصاديات الدول:
اولها ما يسمى بالرقابة القطري، وهي عبارة عن مشاروات ثنائية بين صندوق النقد والدولة المعنية، حيث يقوم فريق من الخبراء الدوليين بإستعراض سياسات البلد الإقتصادية الكلية والخاصة بالمالية العامة، والشؤون النقدية وإسعار الصرف، كما يقيّم سلامة النظام المالي وغيرها من المجالات التي تؤثر على الإداء الإقتصادي في البلد المستهدف. هذا الدور المهم للصندوق يعتمد بشكل أساسي على صحة المعلومات التي تقدمها الدولة الهدف لفريق الخبراء، الذين يقوم بتقديم تقرير إلى المجلس التنفيذي عما خلص من نتائج، وهذا الأخير يعمد إلى تحليل ماورد قي تقرير الخبراء، وتحال أراء المجلس إلى حكومة البلد المعني لإجراء ما يراه الصندوق مناسباً على شكل ملخص، وفي بعض الأحيان يقوم بنشر التقارير كاملةً.
إلى جانب الرقابة القطرية، يقوم صندوق النقد برقابة تدعى عالمية، يقوم يها المجلس التنفيذي من خلال إستعراض للإتجاهات والتطورات الإقتصادية العالمية، وذلك كل ستة أشهر، ويشار إلى أن هذا التقرير متوفر للجميع تحت عنوان "آفاق الإقتصاد العالمي" على الموقع الخاص بالصندوق على شبكة الإنترنت.
وثالثاً، يمارس الصندوق الرقابة على المنظمات الإقليمية، حيث يدرس السياسات المتبعة طبقاً للإتفاقيات، ويقوم الصندوق أيضاً بمراقبة نشاطات مجموعة الثماني ومجلس التعاون الإقتصادي لبلدان أسيا والمحيط الهادىء.
المطلب الثاني: الإقراض لمساعدة البلدان المتعثرة إقتصادياً
من أهم الأدوار التي يقوم بها صندوق النقد الدولي، أنه يقدم قروضاً بالعملات الأجنبية للدول التي تواجه مشكلات في ميزان المدفوعات، الوهدف من ذلك تطمين الدول الإعضاء إلى وجود مؤسسة دولية قادرة على تزويدها بالأرصدة اللازمة لسد أي عجز مؤقت في ميزان المدفوعات، كما أنه وسيلة لإغراء الدول للدخول في عضوية الصندوق، على الرغم مما يترتب عن ذلك من تنزل عن حرية التصرف بالأموال المدفوعة.[13]
وفي معرض حديثنا عن قيام الصندوق بإقراض الدول، لا بد لنا من الإشارة على أن صندوق النقد الدولي يحصل على امواله من إشتراكات الحصص التي تسددها البلدان عند الإنضمام إلى عضوية الصندوق، وتساهم الولايات المتحدة الأميركية بالنصيب الأكبر من الحصص في الصندوق، إذا بلغت حصتها في العام ألف وتسعمئة وتسعة وتسعين(1999) 18.25%[14] .
إن حق البلد العضو في الإقتراض ليس مقيد بموافقة الصندوق فحسب، إذ يضاف إليها أن الحد الأقصى للقرض محدد حسب حصة البلد العضو في الصندوق لدى البنك المركزي المعني لدعم إحتياطاته الدولية، وعلى عكس القروض التي تقدمها وكالات التنمية، إن قروض الصندوق مشروطة بالسياسات، بمعنى أن الشروط تساعد على ضمان عدم إستخدام البلد المعني لقروض الصندوق لإنشاء المزيد من الديون، وبالتالي تأجيل الإستحقاقات المالية له.
ومن أبرز الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي:
- تخفيض النفقات الحكومية، وتتضمن على سبيل المثال: تقليص التقديمات الإجتماعية للمواطنين، رفع الدعم عن مواد أساسية وغذائية، زيادة الضرائب على المواطنين،...
- تحرير العلاقات التجارية لا سيما إلغء الرسوم الجمركية، وتحرير حركة رؤوس الأموال.
- خصخصة مؤسسات القطاع العام.
- تخفيض سعر العملة الوطنية، وتعويمها.
- إلغاء الدعم عن سعر المحروقات.
- تشجيع الإستثمار الأجنبي.
هذه السياسات التي يفرضها الصندوق على الدول الأعضاء، لا سيما النامية منها، لا تتسم بالثبات فهي تتفاعل وتتطور كلما تتطور الأنظمة الإقتصادية، في كثير من الأحيان تؤدي شروط الصندوق الدولي إلى إرتفاع لمعدل البطالة، وإنخفاض في القدرة الشرائية، وتبعية خاصة غذائية، ويضاف إليها تفكك للأنظمة الغنتاجية في العديد من الدول.
ووصفت المسؤولة السابقة في برنامج الأمم المتحدة للتنمية إيزابيل غرامبرغ هذه الأمور بالجريمة، معتبرة ان صندوق النقد الدولي ليس مشاركاً بها فقط، بل إنه المايسترو الذي يدير نظاماً شاملاً، يسحب الأموال من الفقراء ليمول إنفاق أقلية غنية من الناس، والنتيجة هي إنخفاض الدخل الوطني في البلدان النامية إلى حده الأدنى جراء تطبيق سياسات الصندوق، بالمقابل يزداد الدخل الوطني في البلدان الصناعية إلى حده الأقصى[15].
المطلب الثالث: المساعدة الفنية والتدريب
يقدم صندوق النقد الدولي للبلدان الاعضاء المساعدة الفنية والتدريب في كثير من المجلات، كما يتيح لهم الإستفاة من خبراته الفنية، لا سيما بشأن تنظيم الجهاز المصرفي والرقابة عليه، وإعادة هيكليته، كما يساهم في صياغة التشريعات الإقتصادية والمالية ومراجعتها، ويقدم المشورة الفنية بشأن السياسات والإدارة الضريبية والجمركية وإدارة الدين الخارجي والداخلي.
ويقدم الصندوق المساعدة الفنية عبر إيفاد البعثات، وإرسال المتخصصين في مهمات قصيرة الأجل، وتشمل هذه المساعدة مجالات عديدة أهمها صياغة السياسات الإقتصادية الكلية وإدارتها، أنشطة البنوك والسياسات النقدية والنظام المالي، أسواق الصرف، ويقدم هذه المساعدات مجاناً بإستثناء الأعضاء القادرين على الدفع.
ويولي صندوق النقد إهتماماً كبيراً لبناء القدرات عن طريق التدريب، حيث يتولى معهد الصندوق النقد الدولي ذلك، من خلال عقد الدورات التدريبية الخاصة بالمسؤولين في الدول الأعضاء، وإقامة النقاشات في أهم المجالات الخاصة بإدارة القطاع المالي، وسياسات القطاع الخارجي. ويتولى التدريب خبراء من المعهد يعاونهم في كثير من الأحيان اكادميين من خارج المعهد، كما تعطى الأولوية للطلبات المقدمة من مسؤولي بلدان العالم النامي وبلدان التحول الإقتصادي.
جدول رقم: (4) المساعدات الفنية التي يقدمها الصندوق (2001) مقسمة حسب المنطقة الجغرافية

المرجع: تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي(2003)، عن موقع الصندوق الإلكتروني.
المبحث الثاني: دور صندوق النقد الدولي في عدد من البلدان
لعب صندوق النقد الدولي أدواراً عديدة في دول العالم، تماشياً مع رغبة الولايات المتحدة الأميركية والدول المؤثرة، وسنحاول تسليط الضوء على أداء الصندوق في ثلاث حالات عالمية، الأولى في الأزمة المالية للنمور الآسيوية، والثانية هي ما يقوم به الصندوق خلال الأزمة العالمية الحالية، أما الحالة الثالثة فهي دوره في الازمة المالية في لبنان.
تنتمي هذه الدول إلى منطقة جنوب شرق آسيا، وكانت تعاني من الفقر والتخلف، شأنها العديد من دول العالم الثالث. لكن سعياً منها للنهوض الإقتصادي السريع فتحت أبوابها للإستثمارات الأجنبية، التي تدفقت وبسرعة قياسية، مما أدى إلى إرتفاع الأجور وهروب بعض الصناعات المحلية إلى مناطق ذات أجور منخفضة نسبياً. كما أنه وفي إطار السوق الحر قامت شركات القطاع الخاص بإفتراض مبالغ كبيرة من البنوك دون تحر دقيق من قبل تلك البنوك مما أدى لتفاقم مديونية القطاع الخاص إلى حدود كبيرة بلغت ثلاثة وسبعين مليار دولار على القطاع الخاص فقط (73مليار دولار). كما عانت هذه الدول من فائض في الإنتاج نتيجة للتوسع فيه، لا سيما في صناعة السيارات وبعض الصناعات الإلكترونية.
يضاف لتلك الأسباب رضوع بعض دول النمور لشروط ونصائح المؤسسات والصناديق الدولية لا سيما صندوق النقد الدولي، ومن هذه النصائح إجراءات التقشف في النفقات العمومية، وخفض قيمة العملات وغيرها، مما كان لها أثؤ سلبي على الإقتصاد وعلى المجتمع بشكل أعم.
في الماضي أشاد صندوق النقد الدولي بدول النمور الآسيوية بوصفهم بالمعجزة، وأشار إليها البعض بأنها الطفل المدلل لبريتون وودز[16]، إن أخطاء الصندوق لا تعود إلى دوره خلال الأزمة فقط، بل إلى ما قبل الأزمة أيضاً سيما وأن تطور هذه الدول كان تحت نظر الصندوق ورعايته.
دفع صندوق النقد الدولي بدول النمور إلى رفع أسعار الفائدة، ما إضطر بعض المقترضين إلى عدم سداد ديونهم، وهكذا لم تستطع البنوك إسترجاع قروضها، ما جعل المستثمرين يخرجون من السوق، الأمر الذي زاد الأزمة تعقيداً. كما أن رفع أسعار الفائدة يحد من الإقتراض، وبالتالي يقلص من الإنفاق على الإستثمار وأيضاً على الإستهلاك، ومن ثم تراجع الطلب المحلي، الذي أدى إلى إنكماش حركة النشاط الإقتصادي. وإدعى الصندوق أن رفع أسعار الفائدة كانت ضرورية في البداية لوقف التدهور، إلا أن الحقيقة أن هذا الإجراء إمتد إلى فترة كافية لتحقيق الدمار، لأن المستشمرين باتوا يخشون من أن إرتفاع أسعار الفائدة يتبعها إرتفاع آخر.
ومن جهة أخرى، طلب صندوق النقد من الدول إغلاق وتصفية عدد من البنوك والمؤسسات التي تعاني من ضعف، الأمر الذي ساهم في تهافت المدعين لسحب أموالهم الأمر الذي هدد النظام النقدي ككل.
وأخيراً وليس آخراً، فرض الصندوق على هذه الدول برنامج تقشف ينطوي على تخفيض للإنفاق العام في دول كانت تتسم أغلبها بمالية عامة متوازنة، حيث لم تعاني أي من تلك الدول من عجز متفاقم في الموازنة العامة بل على العكس إتسم بعضها بوجود فائض في موازناتها، وكانت حجة الصندوق ان هذا إجراء مؤقت تهدف لإصلاحٍ سريع لإختلالات السائدة. إلا أن هذه السياسة ادت إلى تراجع الطلب المحلي في هذه البلاد، وسط إجبار الصندوق الدول على تحمل الأعباء الناجمة عن برنامج التقشف هذا، والذي سوف توجه موارده غالباً إلى الجهاز المصرفي المهدد بالإنهيار أصلاً. وأدت سياسة تعويم العملات إلى هبوط أسعار صرفها، مما زاد من حدة الأزمة المالية. وبعد تفاقم الأزمة في آسيان، وافق صندوق النقد الدولي على إقراض تايلاند وأندونيسيا وكوريا الجنوبية بالتعاون مع جهات ودول أخرى أيضاً.
جدول رقم (5): مجموع القروض الذي إقترضتها بعض دول آسيان لحل الأزمة
الدولة | صندوق النقد الدولي | البنك الدولي | بنك التنمية الآسيوية | اليابان | |
تايلاند | 4 | 1.5 | 1.2 | 4 | 17.2 |
أندونيسيا | 10 | 4 | 1.5 | 5 | 36.6 |
21 | 14 | | 23 | 58.2 |
المرجع: عبد الله جندل، صندوق النقد الدولي، مجلة معلومات دولية، العدد 64،2008، سوريا.
المطلب الثاني: دور الصندوق في ظل الأزمة المالية العالمية الحالية
إن البحث في دور صندوق النقد الدولي في تيسير النظام النقدي العالمي، يكشف لنا مدى إزدواجيته في التعاطي مع دوله الأعضاء. فيما كانت الولايات المتحدة الأميركية تعاني من عجز في ميزانيتها العامة، كان صندوق النقد الدولي يجبر من بلدان أخرى إعتماد تقشف في إنفاقها الحكومي، هذه الإزدواجية عبر عنها وبإسلوب دبلوماسي مدير الصندوق الحالي دومينيك سستراوس كان، بأن الصندوق كان يقصر رقابياً وتنظيمياً في الدول المتقدمة إقتصادياً[17].
وبالتالي يمكن وببساطة القول أن سبباً رئيسياً في عدم تدارك الازمة الحالية يكمن في أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى، رفضت إطلاع صندوق النقد الدولي على حركة النظام المالي لها، بغية تقديم إقتراحاته. وبإختصار لعبت الولايات المتحدة دوراً ممنهجاً في تهميش دور صندوق النقد الدولي على أراضيها، وكذا فعلت معظم الدول الكبرى، وذلك بغية توجيه الصندوق إلى أدوار أخرى تخدم مصالح الدول الصناعية الأولى في العالم.
وبسبب ذلك، نأى صندوق النقد بنفسه عن التسبب بالأزمة المالية، التي أرجع مديره دومينيك ستراوس_ كان أسبابها الى ثلاث عوامل، أولها إخفاق تنظيمي ورقابي في الإقتصاديات المتقدمة، وإخفاق في إدارة المخاطر في المؤسسات الدولية المالية الخاصة، وأخيراً إخفاق في آليات الإنضباط السوقي، ورأى ستراوس أن المطلوب لمنع تكرار الأزمة مستقبلا هو بذل جهد دولي، لأن الحدود برأيه لا تحصن المؤسسات المالية أو تجعلها بمأمن من الاضطرابات المالية[18]. إلا أن ذلك لم يمنع بعض المسؤولين في الصندوق من الإعتراف بالاخفاق مع المؤسسات المعنية الأخرى. إلا أن الصندوق يعود للقول بأن بعض التحذيرات قد أطلق بالفعل حيث حذر الصندوق ومؤسسات أخرى من تركزات المخاطر في القطاع المالي واحتمالات التصحيح غير المنتظم للاختلالات العالمية. ولكن ما أطلق من تحذيرات بحسب الصندوق وقع على آذان غير مصغية، وهو ما يرجع جزئيا الى افتقارها لصفة الالحاح وطابع التحديد. وتضيف تقارير الصندوق بأن صانعي السياسات افتقروا ايضا الى الالتزام باجراءات السياسة المنسقة لمواجهة المخاطر العالمية. فكان تحرك السياست المبدئي مع تكشف الأزمة، على سبيل المثال عبر المسارعة الى حماية البنوك المحلية رغم ما يجلبه ذلك من مخاطر السحب الجماعي للأموال في أماكن أخرى.
وبعد إنفجار الأزمة العالمية، توجهت الدول الكبرى المتضررة منها، إلى صندوق النقد طالبة منه وضع إستراتجيات الخروج من الأزمة، وللحؤول دون تدمير إقتصادياتها، ووضعت الدول العشرين في قمتها الأخيرة في لندن مطلع نيسان في العالم الحالي تريليون دولار تحت تصرف الصندوق واعدة إياه بالمزيد لكي يستطيع القيام بدوره علو نحو أفضل.
إلا أن المفاجأة الكبرى في هذه القمة كانت تعهد تلك الدول بالإمتناع عن خفض قيمة العملات، ووضع قواعدة جديدة ترعى العلاوات والأجور، فأليس من الطبيعي أن يقوم الصندوق بفرض وصفاته الجاهزة على تلك الدول المأزومة عبر إجبارها على اتخفيض عملاتها، وإتباع سياسة تقشفية حكومية، كما فعل صندوق النقد الدولي مع أزمة النمور الآسيوية وغيرها من الأزمات.
وفي السياق نفسه، أشار البيان الختامي للقمة على أن عصر السرية المصرفية قد ولى، ودعا البيان إلى العمل على إصلاح المصارف وتقوية المؤسسات المالية لمعالجة الأزمة ومنع وقوعها في المستقبل. هذه الإزدواجية في التعاطي مع الأزمات المالية في العالم، دفعت بالعديد إلى القول بأن صندوق النقد الدولي هو بحق آداة بيد الولايات المتحدة الأميركية لتنفيذ سياستها الخارجية بغية السيطرة على العالم.
وعلى الرغم من ذلك، قام صندوق النقد بمحاولات عدة للحد من تفاقم الأزمة من خلال تحديث الشرطية، ومضاعفة حدود الإستفادة من الإقراض[19].
تحديث الشرطية: عبر تطويعها كي تتلاءم مع مختلف درجات القوة التي تميز سياسيات البلدان الأعضاء وأساسياتها الاقتصادية كبديل عن الشروط التي كانت توصف بالقاسية.
مضاعفة حدود الاستفادة من الإقراض: حيث يجري العمل على مضاعفة حدود الإستفادة الإعتيادية من قروض الصندوق وتبلغ الحدود القصوى الجديدة للإستفادة من القروض التي تقدم بشروط غير ميسرة 200% من حصة العضوية على أساس سنوي و 600% من أساسها التراكمي. وتؤدي هذه الحدود القصوى المعززة الى طمأنة البلدان الى كفاية موارد الصندوق المتاحة لتلبية حاجاتها.
إصلاح التسهيلات الموجهة للبلدان الأعضاء منخفضة الدخل: حيث يعمل الصندوق أيضا على إعادة تصميم تسهيلات الإقراض المتوافرة للبلدان منخفضة الدخل بغية تعزيز قدرة الصندوق على تقديم التمويل الميسر الطارئ والقصير الأجل.
المطلب الثالث: دور الصندوق في الأزمة المالية اللبنانية
مر دور صندوق النقد الدولي مع الدولة اللبنانية في مرحلتين، تعود الأولى إلى ما قبل نيسان من العام 2007، والثانية إلى ما بعد ذاك التاريخ.
فخلال المرحلة الأولى، لعب صندوق النقد الدولي دورا على الساحة النقدية اللبنانية عبر التقارير التي كان يصدرها حول الوضع المالي في البلاد، وأشهرها التقرير الذي تسلمته الحكومة اللبنانية في الحادي عشر من تموز العام ألفين وواحد ( 11 تموز 2001)، ومن الجدير ذكره أن الحكومة اللبنانية قبل العام ألفين كانت تسعى إلى الإبتعاد عن الصندوق تجنباً لأي ضغط يُفرض عيها من قبل الصتدوق نفسه أو من قبل الولايات المتحدة الأميركية لتغيير سياستها[20].
بالعودة إلى التقرير الذي صدر في العام ألفين وواحد (2001)، الذي وضع تصورات للوضع على مدى الخمس سنوات قادمة أي من العام 2001 إلى 2006، أوصى بزيادة الضرائب، وتحصين وقف الهدر كشرط لازم للخروج من التردي الإقتصادي. وإعتبر التقرير أن الوضع الإقتصادي في لبنان على حافة الإنهيار إذا ما تمت الإجراءات التالية:
خفض الإنفاق العام غير المجدي إلى حدوده الدنيا، ورفع الغطاء والحماية عن أي مواطن هدر المال العام، ومعالجة الفساد الإداري بما فيها الموازنات الكبيرة في بعض القطاعات، وتخفيف عبء الرواتب والأجور التي تستهلك ثلاث وأربعين بالمئة (43%) من الموازنة العامة، كما طالب الصندوق إلغاء جميع الإعفاءات من الرسوم والجمارك، وشمولية تحصيل مستحقات الخدمات العامة كالكهرباء والمياه والهاتف وغيرها، وإعادة النظر بالنظام الضريبي وتسريع عملية الخصخصة لتحقيق أكبر قدر من العائدات[21].
وكعادته إفترض صندوق النقد الدولي أن تخفيض سعر العملة اللبنانية قد يساهم في تحسين قدرة البلاد التنافسية ويحفز النمو ويخفض العبء الفعلي للدين العام. واللافت في ذلك ما إعتبره البعض تجديدا لأدبيات الصندوق، ففي حين كان صندوق النقد يربط بشكل وحيد بين تخفيض العملة الوطنية وتخفيض الدين العام، ادخل إعتبارين آخرين على المعادلة، زيادة القدرة التنافسية وتحفيز النمو، بهدف إظهار وجود رابط بين الإصلاح الهيكلي والخصخصة وتعويم صرف العملة لإستعادة التنافس وتحقيق النمو.
كما تبين ان صندوق النقد الدولي في مقاربته للأزمة المالية في لبنان، طالب الحكومة بالتشدد في السياسة المالية، وهذا ما سيكون له أثر على الطبقات الشعبية في لبنان، وهذه الأخيرة لا تتحمل أيضا مزيدا من الضرائب والرسوم، ورفع الدعم عن أي من المواد الضروروية. ولا تقتصر الأمور عند هذا الحد، فتقليص الإنفاق العام يعني أيضاً الحد من التوظيف في قطاعات الدولة، ومزيد من الضرائب في مكان آخر من دون الإهتمام هذه السياسيات على الأوضاع المعيشية والإجتماعية في البلاد.
ويلاحظ أن إقتراحات صندوق النقد هي مثل الوصفات الجاهزة التي تعطى لدول العالم النامي، والتي لم تؤدي في معظمها إلا مزيداً من الفقر والبطالة، والجمود الإقتصادي، وإختلال التوازنات الإجتماعية.
بعد هذا التقرير حاول لبنان الحصول على مساعدات من الدول الأجنبية*، غير ان الأخيرة إشترطت عليه الإتفاق مع صندوق النقد كشرط مبدئي لإستكمال المساعدة، وفي هذا السياق إعتبر مسؤول أوروبي أن هدف الدول المانحة هو منح حصول أزمة إقتصادية في البلاد، معتبراً أن هذا الأمر إن حصل فسنمهد الطريق أمام لعبة المتطرفين.
أما المرحة الثانية، فهي ما بعد نيسان العام ألفين سبعة (2007)، ففي التاسع من نيسان من العالم الفين وثماني (9نيسان2007)، وافق صندوق النقد الدولي على إقراض لبنان بأكثر ستة وسبعون مليون دولار ضمن ما يعرف ببرنامج المساعدات الطارئة لما بعد الحرب، المساهمة في دعم البرنامج الاقتصادي للبنان لعام ألفين وسبعة. ولعل أهمية هذا الحدث تكمن في أنه أول إتفاقية بين لبنان وصندوق النقد الدولي، بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على بدء إعادة إعمار ما هدمته الحرب الأهلية، وهذا ما يشكل بداية لخضوع البلاد لشروط صندوق النقد الدولي، التي أثبتت فشلها في إدارة العديد من ازمات العالم.
وهنا إعتبر رئيس المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق في لبنان عبد الحليم فضل الله[22]، أن صندوق النقد الدولي إشترط الكثير على لبنان، مقابل دعم محدود، وأوضح فضل الله أن الدولة اللبنانية تلقت دعماً مالياً وصفه بالزهيد، مقابل خضوعه لسلسلة طويلة من الشروط تبدأ بإقرار رفع الدعم عن المحروقات، ولا تنتهي بإستدراج العروض لبيع رخصتي الخلوي وصولا إلى البيع شبه الكامل. كما أن صندوق النقد الدولي يتعامل مع لبنان يتشدد تارة وبتريث تارة اخرى، الأمر الذي يعني أنه ما زال قيد الإختبار، وأن حصوله عل دعم مالي كبير مثل الذي حصلت عليه العديد من الدول الأخرى أمر مستبعد.
الفصل الثالث: المشاكل التي يعاني منها الصندوق والحلول المقترحة لإصلاحه
شكلت الأزمة المالية الآسيوية بدايةً لجهود الإصلاح لسياسات المنظمة النقدية الدولية، ووضع صانعو القرار عنواناً لهذه الغاية تحت إسم "إصلاح هيكل النظام العالمي"، فما هي المشاكل التي يعاني منها صندوق النقد الدولي والتي إستدعت إستنفاراً لإصلاحه، وما هي الحلول المقترحة لذلك؟.
المبحث الأول: المشاكل التي يعاني منها الصندوق
يعاني صندوق النقد الدولي مشاكل عديدة إنعكست سلباً على طريقة إدارته للنظام النقدي العالمي، ولعل سيطرة الدول الصناعية الكبرى على إتخاذ القرار فيه تعتبر أحد أبرز الأمور التي لا بد من إصلاحها، ويضاف إليها مشكلة النقص في الشفافية لدى الصندوق، وأيضاً أزمة الميزانية، هذه المشاكل على سبيل المثال لا الحصر.
المطلب الأول: سيطرة الدول الكبرى على إتخاذ القرار
إن مبدأ القوة التصويتية لدى صندوق النقد الدولي تعكس بشكل أو بآخر هيمنة الدول الصناعية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية على القرارات داخله، ولهذا فإن معظم القروض التي تقدم تكون للأنظمة التي للولايات المتحدة نفوذاً ومصالح، ولهذا حرمت مصر في العام ألف وتسعمئة وستة وخمسين (1956) من قروض الصندوق لتمويل بناء السد العالي لأن مصر كانت تنتهج في ذلك الحين سياسة مناهضة لواشنطن. كما يلعب العامل السياسي دوراً كبيراً في منح القروض، فالمساعدات التي قدمها تلك الدول تذهب إلى الأنظمة السياسة الموالية لها، فتعمد فرنسا إلى دعم الدول الحليفة لها في القارة الأفريقية على سبيل المثال متجاهلة دولاً أخرى في القارة ذاتها تعيش تحت خط الفقر.
ونتيجة ذلك، أصبحت القروض الخارجية لصندوق النقد الدولي أداة للضغط السياسي على البلدان النامية من اجل فتح حدودها أمام البلدان النامية لفتح أسواقها أمام المتنجات الأجنبية، مدمرة الإقتصاد الوطني لها، ومن جهة أخرى تمارس الدول الكبرى ضغوطاً عبر قروض الصندوق بغية إقامة قواعد عسكرية لها تستخدمها ضد المصالح الوطنية، لهذه المعطيات إن دول العالم الثالث أمام إستعمارٍ جديد.
وعلى هذا الصعيد نرى كبير الإقتصاديين السابق في البيت الأبيض جوزف إ. ستلغلتز قد إعتبر أن سياسات صندوق النقد تخدم ما أسماها الأسرة المالية العالمية أكثر مما تخدم الإقتصاد العالمي[23].
المطلب الثاني: النقص في الشفافية لدى الصندوق
إن المؤسسات النقدية كالمصارف وغيرها تميل إلى السرية بطبعها، لأسباب عديدة أهمها التهرب من الضرائب، وكذلك صندوق النقد الدولي الذي وعلى الرغم من انه ليس مؤسسة خاصة يعاني من ضعف في الشفافية. ويقوم الصندوق حالياً بزيادة شفافيته عن طريق إلقاء مزيد من الضوء على أعمال مجلسه التنفيذي تفادياً لمزيد من الإنتقادات.
ففي الصندوق هناك غياب للمناقشات العلنية، فلو كانت هناك في الأزمة المالية الآسيوية نقاشات علنية لكان بالإمكان عدم تنبي تلك السياسات التي دهورت الأوضاع في تلك الدول[24].
إن صندوق النقد الدولي لا يعمد إلى إعتماد سياسة الشفافية حيال مواطني الدول الأعضاء، فنراه يصدر ملخصات عن تقاريره التي أعدتها عن الأوضاع النقدية في بلدانه، لا يحتوي على كامال المعلومات التي يجب على الدولة معرفتها، ما يضعها تحت رحمة الصندوق وهذا الأمر بدوره خاضع لرغبة الدول الكبرى المؤثرة فيه، ويتجلى ذلك أيضاً بإصداره تقريراً يدعم فيه خطة الحكومة الإصلاحية فيه، بينما يعمد إلى العكس في دول أخرى. وقال مدير الصندوق في أوروبا أوليفر باستن أن على الصندوق إصدار مقترحات تقتصر على الشفافية والمسؤولية تجاه مواطني البلدان[25].
المطلب الثالث: مشكلة الميزانية
إن تمويل عمليات صندوق النقد الدولي بشكل فعلي يتم من خلال تسديد القروض من قبل بلدان العالم النامي، إضافة إلى إشتراكات الأعضاء. لقد أعلنت الحكومة التايلاندية في العام ألفين وثلاثة (2003) أنها سددت معظم ديونها للصندوق، وأنها ستكون مستقلة عنه مالياً، وفي العام نفسه أنهت أندونيسيا إتفاقيتها الإستقراضية مع الصندوق، وانهت دينها بعد سنتين، وإمتنع عدداً من المقرضين الكبار في آسيا عن اللجوء إلى الإستدانة من الصندوق، ومنها الفيليبين والهند وكذلك الصين، وقامت البرازيل والأرجنتين بنفس الأمر، مؤكدين عدم إستعدادهم للإستدانة مجدداً من المؤسسة الدولية.
هذه المشاكل وغيرها دفعت البعض إلى القول بوجوب البحث عن مؤسسة جديدة تدير النظام النقدي الدولي، ما أصاب الصندوق شلل مؤقت، أنعشته الأزمة الإقتصادية العالمية الحالية، حيث تم الإتفاق بين الدول العشرين المجتمعين في لندن من نيسان العالم ألفين وتسعة (2009) على إعطاء دور لصندوق النقد في الخلاص من الأزمة عبر مضاعفة موارده إلى تريليون دولار منها 500 دولار لميزانية الصندوق، و250 دولار لحقوق السحب الخاصة[26].
المبحث الثاني: الحلول المقترحة لإصلاح الصندوق
بعد هذه السلسة من المشاكل التي تعترض تطور صندوق النقد الدولي، طُرحت مسألة إصلاح صندوق النقد من قبل القيمين عليه كإعتراف ضمني بفشل سياسته، وسنعرض في هذا المبحث الحلول المقترحة لإصلاح الصندوق من قبل الصندوق نفسه في المطلب الأول، وفي المطلب الثاني الحلول المقترحة من قبل روسيا والصين، وفي المطلب الثالث الحول المقترحة من قبل المؤسسات غير الحكومية.
المطلب الأول: إقتراحات الصندوق
بادرة يكافىء عليها مسؤولي صندوق النقد، وهي إعتراف مسؤوليه بالأخطاء المرتكبة بحق شعوب بلدان العالم الثالث، إلا أن الخطة التي وضعوها كان غاية المسؤولين عن الصندوق منها صرف الإنتباه عن أخطائهم، كما فعلوا كل ما في وسعهم للحد من مدى هذه الإصلاحات، بإسثناء تلك التي تعطي الصندوق مزيداً من السلطة[27].
لقد كانت هناك العديد من الإصلاحات، أهمها فكرة الإقراض قبل وقوع الأزمة، وطبقت هذه السياسة على البرازيل بما يسمى بـ"القرض الإحترازي"، الذي أخر وقوع الأزمة بضعة أشهر فقط، وكلف مزيداًمن الخسائر. كما أطلق صندوق النقد الدولي عملية إصلاحية جديدة حملت إسم "بايبل آوت"، أي الإصلاح من الداخل، وهذه الإستراتيجية الجديدة كان مصيرها الزوال كما سابقاتها، حيث طبقت على بلدان لا حول لها ولا قوة كالإكوادور وباكستان ورومانيا، وهذه الأخيرة تخلت عن هذه السياسة بعدما ألحقت ضرراً كبيراً على إقتصادها الوطني.
ولم تتوقف محاولات الإصلاح الصادرة عن الصندوق نفسه، فتحت تأثير الأزمة المالية العالمية الحالية، قام صندوق النقد الدولي بإتخاذ العديد من القرارت الإصلاحية، ففي آذار/مارس من العام الحالي (2009)، أيد المجلس التنفيذي في الصندوق زيادة الحصص التصويتية للعديد من البلدان النامية، كنتيجة لزيادة الأصوات الأساسية لكل الأعضاء بمقدار ثلاثة أضعاف، وأيد أيضاً إضافة مناوب ثانٍ لكل من الدائرتين الإنتخابيتين للدول الأفريقية[28]. إلا أن هذه الإقتراحات تحتاج إلى التصويت عليها من قبل مجلس المحافظين، فليكي تصبح هذه المقترحات نافذة عليها أن تحظى بموافقة خمسة وثمانين بالمئة (85%) من مجموع الأصوات.
ومن جهة أخرى وافق صندوق النقد الدولي على إصلاح شامل لنظام الإقتراض، حيث تم تعديل في نظام الشرطية، بحيث تصبح الشروط متلائمة مع مختلف درجات القوة بين الدول الأعضاء، كما وافق الصندوق على مضاعفة حدود الإستفادة البلدان الأعضاء من القروض التي تقدم بشروط غير ميسرة، حيث تبلغ الحدود القصوى الجديدة للإستفادة من موارد الصندوق حوالي مئتان بالمئة (200%) من حصة العضوية. إن مدى نجاح خطة الإصلاح أو فشلها محكومة بالنتائج، فهل ستستطيع هذه الإصلاحات من الحد من تحكم الدول الكبرى بمسار الصندوق. لننتظر ونرى.
وبرأيي، إن محاولات الإصلاح التي قامت أو التي تقوم بها الدول المؤثرة على سياسات الصندوق، هي محكومة بالفشل، لسبب بسيط ألا وهو أن الفاسد لا يستطيع أن يقوم بعملية الإصلاح، كما أن الصندوق لطالما عبر عن مصالح القوى المسيطرة عليه، التي نظرت إلى دول العالم الثالث نظرة التابع لها لا الشريك في المحافظة على إستقرار النظام النقدي الدولي.
المطلب الثاني: المقترحات الروسية والصينية
خلال قمة دول العشرين الأخيرة التي عقدت في لندن من نيسان العام ألفين وتسعة(2009)، قدمت روسيا عدد من المقترحات لإصلاح النظام النقدي العالمي ومن ضمنها مقترحات لإصلاح صندوق النقد الدولي.
يقوم المقترح الروسي على زيادة الرصيد النقدي للصندوق، بعد أن يتم ربطه مع الإصلاح داخل الصندوق، ودعت موسكو إلى تعديل نظام حصص التصويت، عبر زيادة نسبة تمثيل الدول النامية والدول ذات الأسواق المتنامية. ويشار إلى أن نائب رئيس الوزراء الروسي أليكسي كودرين، كان قد أفاد سابقاً أن بلاده لن تستطيع زيادة حصة مساهمتها في الصندوق إذا بقي النظام كما هو عليه الآن.
وبدوه دعا الرئيس الروسي ديمتري ميدفيدف[29] إلى دراسة إتجاهات تطور النظام المالي، كما إقترح ميدفديف قيام عملة إحتياط جديدة، تكون بمثابة عملة اممية تكون مرتبطة بالذهب ولو بشكل نسبي، وبحسب قوله إن هذا الإقتراح لا يهدف إلى تخريب المؤسسات المالية الدولية الحالية. كما دعا الرئيس الروسي إلى دعم العملات الإقليمة القوية على غرار تجربة اليورو مثلاً. كما شددت روسيا على إعتماد صندوق النقد الدولي مزيداً من الشفافية. ولا بد من الإشارة إلى أن روسيا تدعو إلى إقامة نظام مالي دولي جديد غير بريتون وودز.
أما الصين[30]، فإن مقترحاتها لإصلاح صندوق النقد الدولي تقوم على إصلاح النظام المالي العالمي ككل، وذكر الرئيس الصيني جين تاو أن الإصلاح ينبغي أن يكون شاملاً، عبر قيام نظام مالي عالمي جديد يتسم بالنزاهة ويدعم بيئة مؤسسية تقود إلى تنمية إقتصادية عالمية سليمة، وأوضح الرئيس الصيني أن هذا الإصلاح الشامل يشمل إضافة إلى النظام النقدي العالمي، تحسين القواعد والإجراءات المالية الدولية. ورأت الصين أن من واجب صندوق النقد الدولي أن يسهم في تحقيق صالح الشعوب في جميع الدول على حد سواء، ودعت بكين إلى إعطاء الإصلاح داخل صندوق النقد دفعاً نحو الأمام، كما أيدت تحسين نظام العملات الدولية، وقدمت مقترحاً يدعو إلى إعتماد عملة جديدة في الصندوق تكون مستقلة الدولار.
ودعا الطرفان صندوق النقد الدولي في بيان مشترك قبل إنعقاد قمة دول العشرين الأخيرة إلى التحرك العاجل بشأن الأصوات والتمثيل لكي يعكس وزن إقتصاد هذه الدولتان، ومن جهة أخرى دعت موسكو وبكين الصندوق إلى تحسين مراقبته لإقتصاد الدول الكبرى نظراً لأن الأزمة الإقتصادية الحالية لم تنشأ في الدول النامية[31].
المطلب الثالث: مقترحات المنظمات غير الحكومية
قدمت المنظمات غير الحكومية مقترحات لإصلاح صندوق النقد الدولي، إنطلاقاً من تأثيرات هذا الصندوق على مجمل شعوب العالم.
لقد قدم المدير التنفيذي لمركز وولفينسون الإقتصادي جوهانز لين بالتعاون مع زميل له في معهد بروكينجز لبرنامج الإنماء والاقتصاد العالمي كولين برادفورد مقترحات جديرة بالنظر والقراءة[32]، فقد إعتبرا أنه يتعين على صندوق النقد الدولي أن لا يقف عند حدود رفع حصص الدول الأعضاء في مجلس المديرين، بل يتوجب عليه أيضاً الرفع من حصة المخصصات المالية التي تدفعها الدول للصندوق بمعزل عن وزنها الإقتصادي، ما يتيح للدول الفقيرة من مشاركة اكبر في التصويت، كونها الأطراف الأكثر تأثراً وإعتماداً على قرارات الصندوق.
كما طالب المركز بتقليص عدد المقاعد في مجلس المديرين من أ بع وعشرين إلى عشرين، وذلك عبر دمج بعض المقاعد الأوروبية ما يتيح للدول الأفريقية بعض المقاعد الإضافية من أجل تعزيز حضورها في الصندوق، وأيضاً دعا المركزإلى إعتماد معايير الشفافية والكفاءة في إختيار مدير الصندوق، بغض النظر عن جنسيته، وذلك عبر تخلي الدول الأوروبية عن تسمية المدير، بغية جعل الصندوق أكثر تمثيلاً وإهتماماً بمطالب الدول الصغيرة.
وبدوره عرض جوزف إ.ستغلتز عدد من الإصلاحات المالية لصندوق النقد الدولي[33]، وإعتبر الإقتصادي السابق في البيت الأبيض أن من واجب صندوق النقد التدخل بفاعلية للقضاء على المضاربات المالية كونها السبب الرئيسي للأزمات النقدية في العالم، وعدم الإكتفاء بمقاومته فقط. كما قال أن الطريقة الصحيحة لإصلاح عجز المقترضين عن سداد الأمول من المصارف وغيرها، يقوم على إعتماد نظام الإفلاس وليس عملية إنقاذ الدائنين يتمويل من الصندوق، ويكون ذلك نحسب ستغلتز بإصلاحٍ للتشريع الخاص بالإفلاس يعترف بالطبيعة الخاصة بالإفلاسات الناجمة عن تقلبات الإقتصاد الكلي. ودعا صندوق النقد إلى إعتماد خطط للخروج من الأزمات المالية في العالم تتماشى مع عادات وتقاليد البلد المعني، لا بلصق الحلول كما حصل مع الأزمة الأسيوية. كما طلب من صندوق النقد الدولي أن لا يعمد إلى إجبار البلدان بإعتماد سياسة إنكماشية إبان الأزمات، بل يجب فعل العكس*.
الخاتمة
مرً أربع وستون عاماً (64) على قيام صندوق النقد الدولي، وخلال هذه الفترة حاول صندوق النقد الدولي النهوض بمسؤولية النهوض بميزان المدفوعات فب البلدان النامية، فكانت النتيجة مخيبة للآمال، وكانت أوجه الفشل السياسية خطيرة، تتعلق بعدم الإستقرار السياسي داخل الدولة، وهددت تلك النتائج بإنهيارٍ إقتصادي شامل. هذه المحاولات العديدة والتي منيت بالفشل، أفقدت صندوق النقد الدولي مصداقيته لدى شعوب بلدان ما يسمى بالعالم الثالث، خصوصاً وأن هذه الشعوب هي التي دفعت ثمن فشل الصندوق غالياً.
لقد غزا البعض فشل المؤسسة النقدية الدولية إلى الفساد الإداري والسياسي والإقتصادي التي تعيشها الدول النامية، وذلك في معرض دفاعهم عن الصندوق، لكن كيف يمكن لمنظمة تملك موظفين إقتصاديين كبار، لديهم باع طويل في وضع الإستراتيجيات، ويقومون بتدريب صانعي السياسيات المالية في العالم، أن ترتكب هذا القدر الهائل من الأخطاء؟، وهل يعقل أنه لا يتم تداراك تلك النتائج المأساوية؟. ومن جهة أخرى، إن القروض التي يقدمها الصندوق للدول، إنما هو مرتبط بموفقها السياسي من القضايا التي ترتبط بمصالح الولايات المتحدة الأميركية، فنتيجة لوقوفها إلى جانب الدول الغربية في حرب الخليج الثانية، كافأت واشنطن مصر وتونس والمغرب والأردن، بإلغاء عدد من الديون، كما أعطت تلك الدول قروضاً كبيرة وبشروط ميسرة، يضاف إليها مزيداً من المعونات الأميركية.
وبناء عليه، أن التجربة تفيد بأن لصندوق النقد دوراً غير معلن عنه، ألا وهو الحفاظ على مصالح الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، التي تعاملت مع الصندوق وكأنه من غنائم الحرب. وفي النتيجة شكل صندوق النقد الدولي مؤسسة مارس البيت الأبيض من خلاله هيمنته على العالم.
وفي ختام بحثنا هذا، نحن لا ندعو إلى محاربة صندوق النقد الدولي، بل نحاول تحديد المشكلة ليتم إستنباط الحلول لها بما في صالح شعوب العالم، لذلك إن إصلاح صندوق النقد الدولي يمثل حاجة إقتصادية وسياسية ملحة، وتتطلب تعاوناً من جميع دول العالم، فدول العالم النامي ومنها الدول العربية، مدعوة إلى تشكيل جبهات سياسية وإقتصادية، لتستطيع من خلالها إنتزاع حقوقها من أجل حصولها على قوة تصويتية أكبر تؤثر عبرها في القرارات الصادرة عن الصندوق، وهذا الأخير يجب عليه أن يأخذ بعين الإعتبار تداعيات مشروطيته على الأوضاع الإجتماعية لدى الدول، وأيضاً إن صندوق النقد مدعو إلى إعادة النظر بجدول الديون المفروضة على الدول، والتي تشكل عقبة أمام التنمية المستدامة لها. وأخيراً ندعو صندوق النقد الدولي إلى فتح صفحة جديدة مع شعوب العالم أجمع، كما ينبغي من صندوق النقد الدولي أن يسمح للدول النامية بتقرير نظامها الإقتصادي الذي تريده وفقاً لقناعاتها السياسية.